قال تعالى { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران-123).
وتسمى “غزوة بدر الكبرى، وبدر القتال، ويوم الفرقان”، وهي معركة انتصر فيها المسلمون على قريش يوم 17رمضان من السنة الثانية للهجرة، محققين أول نصر ساحق على أهم القبائل العربية في ذلك الوقت. دفع النصر الغاضبين من الدولة الوليدة (قريشا واليهود والأعراب والمنافقين) لإنشاء حلف حاول استئصال المسلمين وكسر شوكتهم، لكن دون جدوى.
سياق المعركة
كذّبت قريش برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقتلت عددا من المسلمين، وعذبت آخرين وشردتهم وصادرت أموالهم، لكن ذلك لم يقض على أتباع الدين الجديد، خاصة بعد نجاح ثلة منهم في الهجرة إلى الحبشة، ثم انعقاد بيعة العقبة التي قرر بعدها رسول الله الهجرة إلى يثرب وقد سبقه إليها عدد كبير من المهاجرين الذين حظوا باستقبال متميز من طرف الأوس والخزرج الذين حملوا اسم الأنصار منذئذ.
حاولت قريش استدراك ما فاتها والتوجه مباشرة إلى قتل الرسول الكريم، وخصصت لذلك فتيانا من جلّ بطون قبائل مكة ليتفرق دمه بين القبائل فيعجز بنو هاشم عن المطالبة بالثأر لدمهم.
واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة والوصول إلى المدينة، على الرغم من أن قريشا قلبت الأرض رأسا على عقب بحثا عنه.
ورغم ابتعاده عنهم، حرص القرشيون على الكيد للمسلمين والبحث عن وقف مدّهم، خاصة وقد انضاف لصفّهم أعداء جدد للإسلام داخل يثرب بقيادة عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان يستعد ليتولى مُلك المدينة قبيل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا كانت قريش تريد الانتقام لكرامتها بعد فشلها في وقف الإسلام ونجاح المهاجرين والرسول الكريم في الوصول إلى المدينة، فإن اليهود كانوا متذمرين من بعثة النبي عليه السلام الذي كانوا ينتظرون أن يرسل منهم، بل كانوا يتهددون به الأوس والخزرج، لكن عندما بعث من قريش كفروا به رغم أنهم كانوا يجدون أوصافه وتفاصيل عنه في كتبهم.
في هذه الأجواء العدائية المنذرة بالخطر، تحرك المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرض معادلة قوة جديدة على الأرض.
وقد بدأ نبي الإسلام باستهداف القوة الاقتصادية لقريش المتمثلة في تجارتها وقوافلها التي كانت تمر عبر طرق المدينة المنورة في اتجاه الشام، وفي هذا السياق جاءت معركة بدر الكبرى يوم 17 رمضان في السنة الثانية للهجرة.
عير قريش
بدأت قصة معركة بدر الكبرى بعد وصول أنباء عن قافلة تجارية كبيرة لقريش يقودها أبو سفيان بن حرب، وتذكر الروايات أنها كانت تتكون من ألف بعير محملة بمختلف أنواع البضائع التجارية، ويحرسها فقط نحو أربعين شخصا.
فـقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى القافلة للسيطرة عليها والرد على قريش، التي صادرت أموال المسلمين في مكة وسلبتهم كل ما يملكون.
أبو سفيان من جهته وصلته أنباء خروج المسلمين لاعتراض قافلته، فأرسل يستنجد بقريش التي رأت أن الفرصة جاءت لإبادة المسلمين ولا يجب أن تفوتها، وذلك على الرغم من أن أبا سفيان بعث إليها يخبرها أنه غيّر مسيره وأنقذ القافلة.
فقد حرّض أبو جهل عمرو بن هشام قريشا على القتال واستغلال الفرصة لتوجيه ضربة قاصمة للمسلمين، وفرض هيبة قريش على القبائل العربية.
خرجت قريش في نحو ألف مقاتل، في وقت لم يتجاوز عدد المسلمين -بحسب الروايات- 314.
تفاصيل المعركة
لمّا تأكد أن الأمر أخذ طريقه نحو مواجهة مسلحة مباشرة، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال المهاجرون خيرا واشتهر الصحابي الجليل المقداد بن عمرو بقوله “يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنوإسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه” (سيرة ابن هشام).
لكن نبي الإسلام كان يريد أن يتقرر موقف الأنصار ويثبت رأيهم قبيل المعركة، ليس لأنهم كانوا محتضنين للدين الجديد فقط، بل لأن البيعة التي كان الأنصار عقدوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تتضمن القتال، بل كانت تشتمل على حمايته ومنعه، لذلك لم يكونوا ملزمين بشيء خارج المدينة المنورة، لذا حرص عليه السلام على التحقق من موافقتهم، فقال مرة ثانية “أشيروا عليّ أيها الناس”..
فما كان من الصحابي الجليل سعد بن معاذ، وهو القيادي البارز ضمن صفوف الأنصار، إلا أن قام قائلا “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: “أجل”، قال: “فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا علىالسمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوًا غدًا، وإنا لصبُر في الحرب صدُق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله”. فسُرّ الرسول صلى الله عليه وسلم بما قاله المهاجرين والأنصار، وقال “سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين”.
وصل المسلمون إلى آبار بدر على بعد 155 كيلومترا من المدينة المنورة، و310 كيلومترات من مكة المكرمة، ووصل جيش قريش إلى المنطقة نفسها، وصفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وحرضهم على القتال وإخلاص النية لله تعالى، وبدأ يدعو الله أن ينصره على أعدائه.
تقدم بعض من قيادات قريش لطلب المبارزة كما كانت عادة المعارك في ذلك الوقت، وكان من بينهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وكلهم من عائلة واحدة. وكان عتبة بن ربيعة مشهورا في قريش بحكمته وذكائه، وكان من الرافضين لقتال رسول الله بعد نجاة القافلة، لكنه رضخ لرغبة أبي جهل.
فخرج نفر من الأنصار لمبارزتهم لكن القرشيين طلبوا مقاتلين من بين قومهم من المهاجرين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا من عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وحمزة، وعلي بن أبي طالب للخروج، فتمكنوا من قتل قيادات قريش، مما رفع معنويات جيش المسلمين وأصاب صفوف قريش بالإحباط بهذه البداية السيئة.
ثم ما لبثت المعركة أن اندلعت، وبشر النبي أصحابه بالنصر وبالدعم الإلهي المباشر، وانتهت المعركة بمقتل نحو سبعين شخصا من قريش بينهم قيادات بارزة وفي مقدمتهم أبو جهل عمرو بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة.
كما أسر المسلمون نحو سبعين آخرين، افتدوا بعضهم بالمال، وبعضهم الآخر بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، كما صدر عفو عن أسرى آخرين فقراء ليس لديهم ما يمكّنهم من افتداء أنفسهم به. في حين تشتت بقية الجيش وعادت جماعات وفرادى إلى مكة تجر ذيول الهزيمة.
التداعيات
كان من نتائج المعركة الحاسمة أن ظهر المسلمون رقما صعبا في معادلة شبه الجزيرة العربية بعدما كانوا في عيون خصومهم مجرد مجموعة هشة ستذهب مع مهبّ الريح مع أول نفخة من قريش وحلفائها.
أما قريش فقد أصيبت في مقتل، إذ إن هيبتها ضُربت، وبعد أن كانت تختال على القبائل بأنها محضن البيت العتيق ومحضن القوة والمنعة، تلقت هزيمة بشعة وقُتل رموزها في معركة مع جيش لم يتجاوز عدده الـ314 جنديا.
إلى جانب ذلك، باتت شرايين اقتصادها بين أيدي المسلمين يقطعونها متى شاؤوا، فالقوافل التي تغذي الاقتصاد المكي لم تعد تُسيّر بنفس الطريقة، بل وجدت قريش نفسها ملزمة باتباع خط سير طويل في طرق لم تألفها لتبتعد عن خطوط السير العادية التي تمر عبر المدينة المنورة، وحتى هذا الحل لم ينفع قريشا لأن المسلمين قطعوه عليهم.
وبالنسبة للأعراب المحيطين بالمدينة، فقد أزعجهم قيام قوة أعلنت عن نفسها بهذا الوضوح عبر نصر سريع وحاسم على أعتى قوة عربية في المنطقة ممثلة في قريش، فقرروا التجمع لضربها سبعة أيام بعد نصر بدر. فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن جمع المسلمين وخرج إلى بني سليم الذين سارعوا للفرار إلى الجبال بعدما رأوا المسلمين ولم يجرؤوا على مواجهتهم.
النصر الساحق الذي تحقق ببدر أفرز طائفة جديدة في المدينة المنورة، وهي الطائفة التي عرفت في التاريخ بالمنافقين، إذ إنهم اضطروا لاعتناق الإسلام تقية بعدما كانوا يعادونه في البدايات، فثبوت قوة المسلمين لم تترك لهم مجالا للمناورة إلا عبر باب النفاق، كي يحفظوا مصالحهم ويستطيعوا الدفاع عن تحالفهم مع اليهود وقريش.
ومن نتائج معركة بدر كذلك سيطرة المسلمين على دائرة جغرافية اتسعت لتشمل شمال مكة ومنطقة الساحل والمدينة، مما قطع لقريش أي أمل في استمرار تجارتها مع الشام، فبدأت تفكر وتعد لجولة جديدة.
ورغم نجاحها في توجيه ضربة قوية للمسلمين في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة بعد مخالفة عدد من الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزام أماكنهم، فإن قريشا لم تسعد أبدا بما حققته، إذ سرعان ما التأم صف المسلمين من جديد، وانطلقت المسيرة التي انتهت بفتح مكة في العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.
المصدر : الجزيرة, بعض المواقع إلكترونية