ولد الشيخ بداه عام (1338هـ – 1919م)، في منطقة الترارزة في الجنوب الغربي الموريتاني، بعد أربعة أشهر من وفاة والده، وتولى تربيته جده لأمه العلامة محمد ولد حبيب الرحمن، الذي أشرف على رعايته وتعليمه.
الدراسة والتكوين
بدأ رحلته العلمية مبكرا كما هو شأن أقرانه في زمانه، فحفظ القرآن وهو دون التاسعة من عمره ودرس العلوم الشرعية فقها وتفسيرا ولغة ومنطقا وبلاغة، وأخذ عن عدد كبير من العلماء في ذلك العصر من بينهم الشيخ أحمد ولد أحمذيه.
وأضاف إلى الأخذ عن الشيوخ المطالعة الدائمة وقراءة كتب الأصول والفروع، وبعدئذ شملت مطالعاته كتب الدراسات الإسلامية، فكان رغم انشغاله بالتدريس يحرص على قراءة الفكر الإسلامي الحديث، والدراسات المتعلقة بالقضايا الإسلامية المعاصرة.
استكمل بداه علوم عصره على شيوخه وتصدر للتدريس في بادية أهله، فالتحق به طلاب كثر لينهلوا من علمه، وبدأ يقدم دروسه، وكان كلما زاد الطلاب ازدادت رغبته في الاستقرار، ويروى عنه أنه كان يسأل الله أن ييسر له منزلا في الحضر يقرأ فيه كتبه.
وفي عام 1958 نزل بحي “لكصر” بنواكشوط الذي كان يومئذ يتكون من منازل قليلة، فأقام محظرته ومسجده، وانطلق يدرس ويفتي ويصلح بين الناس، وحافظ على دروسه العامة وخصوصا درس التفسير الذي بدأه في مساجد البادية، وكان يولي درس التفسير عناية خاصة، رغم أن علم التفسير لم يكن مطروقا كثيرا في المحاظر الموريتانية آنذاك.
التوجه الفكري
تميز منهج بداه ولد البصيري الفكري بالاعتدال والتمسك بالأصول مع الحرص على الاستفادة من الفقه وتراث الأمة، فزاوج بين المحافظة على الفروع وتشجيع الاستنباط والاجتهاد، واختط طريقا يرفض الجمود الفروعي تماما كما يرفض إلغاء الفقه وتراث العلماء، مؤسسا بذلك ما اعتبر معالم فقه تجديدي داخل المدرسة المالكية.
وكانت قواعد جمع الأمة عنده مقدمة على ما عداها، وكان يصد محاولات الوقيعة بينه ومخالفيه مذهبيا أو طرقيا، وينقل عنه أحد طلابه أنه كان يقول اشتغلت زمانا بإقناع الفروعيين بالتبصر، والمتبصرين بالاستفادة من التراث الفقهي، حتى إذا ظهرت نابتة الإلحاد والعلمانية اتجهت لإقناع الناس كلهم بأصل الإسلام والتخلي عما عداه من نحل ومذاهب.
وقد اشتهر بمواقفه الصلبة ضد محاولات الأنظمة وبعض النخب الموريتانية تمرير بعض القوانين التي رأى فيها خطرا على الهوية الثقافية للبلد، فقد تصدّر الحملة ضد مشروع دستور 1982 الذي اعتبره مخالفا للشريعة الإسلامية، ووقف ضد التطبيع مع إسرائيلأيام حكم الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد أحمد الطايع، واستنكر علنا اعتقالات الإسلاميين سنة 1994.
ولم تقتصر مجاهرته بالحق على القضايا المحلية، فقد جاهر في خطبة الجمعة باستنكار مجزرة النظام السوري في حماة سنة 1982 الأمر الذي أثار حفيظة الحكومة السورية فاحتج سفيرها في نواكشوط، وحين خاطب الرئيس الموريتاني محمد خونا ولد هيدالةالشيخ بداه في ذلك -بحسب بعض الروايات- رد عليه “أنا لا أخاف منك ولا من غيرك، وإذا كنت ستتحكم فيما أقول وما أرى فخذ المنبر ودعني أذهب لشأني”.
وإلى جانب الشدة في الحق، كانت حياته -بحسب العارفين به- حياة علم وعمل وورع، ويصفه أحد طلابه بأنه كان “شحنة من الإيمان، ووهجا من القرآن، وقبسا من السنة، تسر به النفوس، وتنتعش به القلوب وتقتات منه العقول، وكان مدرسة إيمانية عملية تتجاوز المنطق بالعرفان وأدوات الخطاب بالإيمان وتلج النفوس في يسر وسهولة”.
مواقف في الحقعدل
عرف عن الشيخ بداه صدعه بالحق ودفاعه عن المظلوم فيه ولايزال الجميع يتذكر خطبه الصادعة بالحق أيام طغيان العقيد معاوية ولد الطايع، ووقوفه الصريح في وجه كثير من المخططات التي تواجه هوية البلد ودينه والعمل الإسلامي بشكل عام.
عهد على قول الحق..
يروي تلاميذ الشيخ بداه أنه أخذ على الرئيس الأسبقالمختار ولد داداه العهد على أنه يتركه يصدع بما يرى أنه الحق، ورغم ذلك فقد ظلت خطب الشيخ تغيظ بعض أطراف الحكم آنذاك، وقد استدعي أكثر من مرة للمساءلة من قبل القائمين على التوجيه الإسلامي وكان رده دائما’’ إما أن تتركوني أقول ما أراني الله أو أترك لكم المنبر’’. وحينما اشتعلت حرب الصحراء، اعتبرها الشيخ فتنة بين المسلمين، وعلى عكس بعض الفقهاء الذين قالوا إن قتلى الجيش الموريتاني شهداء لايغسلون ولا يكفنون كان الشيخ بداه يقول ’’ إن الحزم عكس ذلك غسلوهم وكفنوهم وصلوا عليهم’’.
وقفة ضد العلمانية
ويتذكر الجميع مواقفه الصارمة ضد محاولات الأنظمة السياسية وبعض النخب الثقافية والسياسية في البلد لتمرير بعض المراسيم والنظم التي رأى فيها الشيخ بداه خطرا على الهوية الثقافية للبلد. ومن الأمثلة في ذلك وقوفه الصارم ضد دستور 1982 م المخالف للشريعة الإسلامية، حيث كان العلامة ضمن عدد من الأئمة والعلماء وقادة التيار الإسلامي حينها حجر العثرة الأبرز التي أدت إلى سقوط الدستور المذكور الذي يوصف بأنه دستور علماني جدا.
وقبل ذلك عندما استنكر الإمام مجزرة النظام السوري ضد الإخوان المسلمين في حماه،احتج السفير السوري في موريتانيا على خطبة الإمام بداه، ليقوم وزير الإعلام آنذاك بعقد اجتماع مصغر ضم رئيس الدولة المقدم محمد خونه ولد هيداله، الذين أبلغوا الشيخ احتجاجهم على الخطبة واعتبارها خروجا على سياسة الدولة، الأمر الذي أغضب الشيخ بداه وخاطب ولد هيدالة قائلا ’’ أنا لا أخاف منك ولامن غيرك وإذا كنت ستتحكم فيما أقول وما أرى فخذ المنبر، ودعني أذهب لشأني’’ وخرج الشيخ مغضبا. ويروي مقربون من الشيخ كيف رد على رسالة رئيس الدولة حينئذ تحذره من ’’خطر الإسلاميين على البلاد’’ رد الشيخ بداه قائلا ’’ إن الإسلاميين خير للبلاد من الشيوعيين، وسيرى رئيس الدولة مصداق ذلك ’’.
وكما رفض الشيخ البصيري الإفتاء بأن قتلى حرب الصحراء شهداء رفض أيضا الإفتاء بأن منفذي المحاولة الانقلابية 16مارس 1981 م محاربون، رافضا إصدار فتوى عامة في شأن المحاربين، وينقل بعض المقربين من الشيخ حواره الساخن مع رئيس اللجنة العسكرية حينئذ الذي غضب من موقف الشيخ فرد عليه بداه ’’ لن أفتي بما تريدون..العسكر مثل كلاب الفلاة كلما اجتمع ثلاثة أكلوا واحدا منهم، ولن أفتي فتوى عامة حتى يأتي كل متغلب فيقتل صاحبه ويقول إنه محارب’’.
ضد التطبيع والديكتاتورية
بعد الإطاحة بولد هيدالة ووأد مشروع تطبيق الشريعة وظهور نظام سياسي جديد لم يخف الشيخ بداه عدم ارتياحه للنظام الجديد وخصوصا الإشارات التي بدأ ولد الطايع يصدرها تجاه قضايا اعتبرها الشيخ مركزية في صون هوية البلد وسمته العام ولم يكن الشيخ يخفي استياءه مما يعتبره وجها من أوجه العلمانية الصارخة في البلاد تمثله خطوات عديدة لولد الطايع، ورغم ذلك حافظ الشيخ على وسطيته وعلاقته الأبوية بالجميع، رافضا أن يكون طرفا في أي صراع أو أن يمرر النظام السياسي مواقفه من خلال منبر الشيخ أو مواقفه.
ووقف الشيخ بشكل صارم ضد احداث89 1989 م ،وأكد موقف الإسلام من الاقتتال بين المسلمين، داعيا إلى التوحد ونبذ الخلاف.
ولاحقا عندما شن النظام الطائعي حملته سنة 1994 م على الإسلاميين وقف الشيخ بداه وقفة صارمة ضد الاعتقالات مؤكدا ’’أن الإخوان المسلمين لايقتلون النفس التي حرم الله ولايزنون، وأنهم برآء من كل ما يرمون به’’ ولم تقف جهود الشيخ عند هذا الحد بل بذل النصح للنظام الطائعي وطالبه بإطلاق سراح الأئمة المعتقلين. ومع بداية التطبيع أحس الشيخ بداه بخطر كبير على الهوية الثقافية للبلد، وكان يؤكد لطلابه أنه لم يعد يطيق أرضا ترفرف فيها راية إسرائيل.
اطلاع واسع
بحسب طلاب الشيخ فقد كان قارئا نهما وتشهد المكتبة الضخمة للشيخ بذلك، حيث قل أن يخلو كتاب في المكتبة من حواش وتعليقات للشيخ بداه، ويؤكد هؤلاء أنه قرأ فتاوي ابن تيمية وهي 35 جزء وسجل تعليقاته واستدراكاته على هوامش كل الأجزاء. كما اهتم الشيخ بداه بالناتج الفكري الإسلامي المعاصر وكان يعبر عن إعجابه الشديد بالإمام حسن البنا وفكره الإصلاحي ويؤكد تلاميذه أن الشيخ قرأ رسالة التعاليم للإمام البنا وأعجب بمضامينها، كما كان يطلب من تلاميذه أن يقرؤوا عليه مذكرات الإمام البنا وكتب الشيخ سعيد حوى ويعتبرهما من خيرة المؤلفين، وتزخر مكتبة الشيخ بداه بعشرات الكتب التي تعالج قضايا الفكر الإسلامي.
حرب ضد البدعة والتقليد
خاض الشيخ بداه حربا شعواء ضد ’’الفقهاء الجامدين’’ وخصوصا أولئك الذين انتقدوا عليه إقامة صلاة الجمعة، وكان يرد على الجميع بأدب جم وعلم وافر مؤكدا أنه إنما يرد من خلال الوحيين وعليهما يبني رؤيته وفقهه ومقاصده، وبين تقليد جامد وتجديد يلغي الفقه وتراث العلماء وقف الشيخ بداه مؤسسا معالم فقه تجديدي يعيد للمدرسة المالكية ألقها ونضارتها وبهاءها. وتشهد مؤلفات الشيخ بداه المتعددة، تعدد معارفه وموسوعيته على ذلك الجهد الكبير في مجال التأصيل ورد الفروع إلى الوحيين، كل ذلك في أدب جم يحسن الربط بين النص وتفسيره ورأي العلماء فيه.
ربانية وارفة الظلال
حافظ الشيخ بداه على برنامج تربوي وتدريسي متميز، مكن الآلاف من أبناء موريتانيا من الاستفادة من علمه الجم ومن تواضعه العظيم ومن إبائه ووقوفه في الحق. ويؤكد خلص طلابه على أنه ظل محافظا طوال حياته على ورد قرآني صارم حيث يتلو بصوت عذب كل صباح قبل أن يصلي الفجر سبعة أحزاب من القرآن، وظل يحافظ على هذه الورد إلى آخر أيامه. كما كان الشيخ يقف عند مقاصد القرآن ويبصر عظمة الله في كتابه ’’فقد بكى عندما قال ’’فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ’’فبكى لأنه أحس معنى الشهود أما الآخرون فكانوا يبكون عند ذكر اسم النار والحديث عن حسيسها
المؤلفات
له عدد من الكتب من بينها: “أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج على مذهب الإمام مالك”، و”القول المفيد في ذم قادح الاتباع ومادح التقليد”، و”الحجر الأساس لمن أراد شرعة خير الناس”، و”القول المبيَّن في الردِّ على من قال بالتزام مذهب معيَّن”، و”القول السديد في الرد على أهل التقليد”.
وله مؤلفات أخرى في العقيدة والتوحيد، منها: “تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر”، و”الدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد”، و”تنبيه الحيارى وتذكرة المهرة في الجمع بين أحاديث الفرار والنهي ولا عدوى ولا طيرة”.
مساجلة رائعة بين بداه وعدود رحمهما الله
فقد قال الشيخ عدود أبياتا يذكر فيها خصال العلامة بداه ولد البصيري حيث يقول:
الشيخ بداه الإمام دون شـــــك *** مصنف مــدرس مفـــــت مــزك
موئل ذي حاج منير في حلك *** شفــــيع جان مرشد مـــن ارتبـك
يجمعه والعذب قدر مشتــرك *** لولاهما لمصـــــــرنــــا هذا هلك
شهادة ليست كتسليم بفــــــك *** من باب أسلفنـــي على أن أسلفك
قصدت شيخنا بها أن أنصفك ** ……………………………….
وعندما سمع العلامة بداه أبيات عدود قال له: والله لا أجلدك في الخمر بعدها..! إشارة إلى قصة أبي محجن الثقفي المعروفة، وأنشد بداه قائلا:
أنصفتني فرمت أن أعرفك *** بشيمة الأشراف كي أشرفك
شيمتهم الإنصاف قولة بفك *** لم يكن القصد بها أن أسلفك
في الخمر بعد هذه لن أجلدك ** ……………………
الوفاة
توفي بداه ولد البصيري يوم 7 مايو/أيار 2009 فينواكشوط.
امش عــــدود وخلعّن *** ومش بداه وانــــا لله
وبكات الناس ابلا عدود *** وبكات الناس ابلا بد
فعلى ضريحه المبارك السلام والرحمة وعلى جدثه الطيب شآبيب الغفران ومامات من ترك وراءه ذكرا طيبا كالذي ترك الشيخ بداه ورحل إلى قمة عالية من الإيمان والإخلاص والإحسان كتلك التي قدم الشيخ بداه. وله ولمثله وهو قليل ينشد الدهر والناس والفقه والفقهاء قضى ’’ابن البصيري’’حين لم يبق مشرق ولامغرب إلا له فيما مــادح
وبزفرات المكلوم إلى بقية الأبيات فما أنا من رزء وإن جل جازع ولابسرور بعد موتك فارح