وداع في مكتب صاحب المعالي الوزير يوسف بن علوي

كانت شذرات من أخبار عُمان قد تناهت إلى مسامعي، وكنت ساعتها طالبا بالسنة الأولى من قسم التاريخ، جامعة القاهرة، لما زار القاهرة مبعوثٌ من سلطنة عُمان، في أوج المقاطعة العربية لها، سنة 1979م، ومن ثم تناهت إليَّ أخبارُها الطوالُ الأكثر تحريرا من الدينوري، عبر الصَّوت الرَّخيم للدكتورة ليلى الصَّبَّاغْ، رحمة الله عليها، في قاعات الدرس بجامعة دمشق، وكانتْ أستاذةَ تاريخ أوروبا الحديث، أخبارٌ كانت نداءً لضميري، وكان ساعتها حيًّا، كنت فتًى يافعا، قادمًا من نقطة التَّمَاسِّ، وعربُ التَّمَاسِّ ضَرْبَةُ لازِبٍ، جرعتهم من الحماس في رفعة العرب والغيرة على مؤازرتهم، والدفاع عن منعتهم تأبَى الوصفَ، ولو كنت اللغويَّ والأبيانيَّ والمنبريَّ، شنَّفتْ الدكتورة أذني، وأنا أقرأ رأي الغزالي الذي ينتهي إليه من أنَّ من لم يفعل فيه العود، والروض وأزهاره فِعْلَتَهُما يَصِفُهُ بفساد المزاج.

شنَّفت أُذُنِي وهي تشرح دور العُمانيين في الامتداد، وحماية الثغور، وضرب الأمثلة في قيم الفروسية، وذَوْبِ الفتوة، وإبَايَةِ الضيم، فاستقر في ذهني أنهم أبَاةٌ، وأنهم حُماةُ الذمار، فاحتلوا في نفسي (مكانا لم يكن قد حُلَّ من قبلُ)، وأصبحتْ الأستاذة مثالا لي وقدوة، وكنت أقلِّدها في درسِ التاريخ، مادة التوسُّع الأوروبي التي كنت أدرِّسها، في المدرسة العليا للتعليم، وفي جامعة نواكشوط، وأقلدها في ذكر مناقب العُمانيين، وكَبَوْتُ في الأولى ونجحت في الثانية، فقد فَلَّ جُهْدي القاعدةَ البيانيةَ من أن المشبَّه لا يقوَى قوة المشبَّه به.

انقطعتُ عن الدرس الذي كنت أمارسُ فيه الهوايةَ، جَرَّاءَ إصرار رئيس الجامعة على منعي من التدريس، بحجة أني أصبحت وزيرا، وناطقا رسميا باسم الحكومة، أقنعني، والحال أنه قبلني قبل ذلك وأنا المستشار برئاسة الجمهورية. وبعد تنحيتي بنحو شهرين وفي يوم رتيب (من أيام التنحية)، وهي مختلفة عن أيام الحداثة، فأيامُها طِوال ولياليهَا كليالِي العاشقين (شُدَّتْ بأمراسٍ…)، وبعد استفاقةٍ من سِنَةٍ أخذتني الشمسُ رأْدَ الضحى (والشمسُ رأْدَ الضُحَى كالشمسِ في الطَّفَلِ)، تلمست الهاتفَ بعد أن لحَّ في الرنين، وبعد واجب التحية أخبرني صاحبُ السعادة مدير الديوان أنه تم تعييني سفيرا فوق العادة وكامل السلطة في سلطنة عُمان.

ولك -عزيزي القارئ- أن تتصوَّر وقْعَ الخبَر في نفسي، وسأساعدك في جلاء الصورة بـ”احمرارٍ” (وهو الشرح باللون الأحمر يضعه مؤلفو المحاظر، المدراس الأهلية البدوية الشنقيطية، على هامش الصفحة لفكِّ ما استغلق من النص): لقد صادف تعييني يوم الثلاثاء وكانت الجمعة التي سبقته قد شهدت تعيينات للسفراء، وكنت أنتظر أن أكون ممن تتم تسميتهم، إذ جاءني أحد كبار المسؤولين برسالة من رئاسة الجمهورية مفادها أنني سأعين سفيرا في المملكة المغربية، وقد كانت حديثَ بعض أعضاء الحكومة وبعض كبار الساسة، وقد طارت بها الركبان، فوُئدتْ وهي في طور الفكرة. وكان تعييني منفردا متفردا، وليَّ مزاجٌ خاصٌّ وهذا من مصلحاته، والمصلحات تأتي كرها، والأمثال لا تتبدل ولا تكون كذبا…

ومن جهة أخرى كانت جهة الاعتماد سلطنةَ عُمان، وهو حُلم راودني لما كنت طالبا بجامعة القاهرة، وألحَّ عليَّ وأنا طالب بجامعة دمشق، واستبدَّ بي وأنا طالب بجامعة محمد الخامس (بالمشرق والوسط والمغرب)، جهات العرب الثلاث، وأعرق جامعاتهم.

وقد أكملت الاستعداد لها، مما تُنْبِتُ أرضُ شنقيط، ومن أزيائها القشيبة، والشاي المفتول، رفيقي في الترحال، وخير جلسائي مما انتقرت من الكتب من بلدان كثيرة زرتها… وصلت مسقط فجر يوم 3 فبراير (شباط) 2016م، وأمضيت فيها ما يناهز ثلاثَ سنين، وكأنها من قصرها ثلاث ليال، في ضيافةِ بيتٍ عربيٍّ شهْمٍ كريمٍ ماجدٍ، شعبُ عُمان، مهما طال بك المُقام يكرم وفادتك، يحمل إليك الضيافةَ وأنت بمنزلك، يُقدِّمك في دخول المسجد، في قاعة الاستقبالِ، في مخازن التبضُّع، وفي المرور حتَّى وأنت في السيارة وأنت من المشاة…

ومن أطرف ما لاحظت أنني لم أسمع زمُّورَ سيارة إلا مرة واحدة، ومن أجنبي. وقد صادف ان ضغط السائق الهندي، رَجَانْ، زمورَ السيارة التي تقلني، فأنذرته إن أعادها…

وحين تكرر تقديمهم لي ببَابِ المسجد قلت لشاب عماني لما أصرَّ على تقديمي في الدخول، وفي ذهني سبر أغوار فهمه لأحكام ديننا الحنيف، قلت له: تَقَدَّم، “لا إيثار في القُرَبات”، فأجابني: إن كان والدا فيجوز إيثاره. فأثنيت على أدبه الجَمِّ وعلى عمق فقهه بأمور ديننا الحنيف.

رجالُهم قاماتُهم فارعةٌ، وللإمام السمت، نص استقيناه من الأحكام السلطانية، غاية في الرزانة ورباطة الجأش والسكينة، مهما كان حظك من نفاذ البصيرة وحدَّتِهَا، ورهافة الحسِّ، لن تتمكن من أن تتنبأ بمذهب أحدهم، إلا أن تُلِحَّ عليه في السؤال، ولربما أعرض دون ذلك أمرا “إن في المعاريض مندوحةً عن الكذب”، رجالهم مغاويرُ، هم رجال البحر، ورجال البر، جمعوا من سجاياه المحمودة ما تفرق في غيرهم. وحَدِّثْ عن العمانيات الماجدات، جمعن بين اكتِناز قيم المرأة العربية الأصيلة، “وإني لهنَّ فوقَ السِّماكين جاعل”، ومشاركة أخيها العماني في قوة شكيمته وشجاعته، ودفاعه عن وطنه ببسالة، يَعِزُّ نظيرُها، من يَفْتَرُّ له الحظ عن مبسمه الألْمَى، فيشاهد العرْضَ العسكريَّ في اليوم الوطني العماني (18 نوفمبر من كل سنة)، والحال أنه ينتصر للعرب، تُطّوِّحُ به همتُه في العلياء إلى سُوحٍ لا تخطر على بالٍ، وسيُعْجَبُ للوحة التي ترسمها مساهمتها في هندسة بناء نهضة عُمان، ومساهمتها الثقافية، وفصاحتها التي تحسد عليها، حدث عنها ولا حرج. أذكر مرة أنه في ندوة نظمتها رابطة مشتركة بين العمانيين والإماراتيين، في يوم مشهود، في فندق اغراند حياة، وهو على مرمى سهم من منزلي بمسقط، وقد استدعت له السفراءَ العربَ، وكنت في الصف الأول، وقد قالت المحاضِرةُ في سياق دقة الارتباط بين العمانيين والإماراتيين إن هناك كلماتٍ من العربية لا يعرفها غيرهما، وضربت مثلا بالشماريخ، فخرجت على البروتوكول، وبالمناسبة فإنَّ العمانيين، وهذا مشهود لهم به، صارمون فيه ويزنون قيمه ببيْض النمل، رفعت إصبعي وقلت لها: إن الكلمة حينَ ترتبطُ بثقافة النخيل فإن الموريتانيين لهم باع واسع فيها، وإلا فإنها في صميم اسم مؤلف في التاريخ (الشماريخ في علم التاريخ)، هي إذن بين النخيل والتاريخ، ولي منهما نصيب، فنوهتْ بالتدخل وشاركها الحضور وفعلا كانت مضربَ الأمثال في الفصاحة، أقول ذلك، وفي ذهني ما تجسده من مجمل هذه المناقب الحميدة أختي الفاضلة الماجدة ندى بنت صالح بن سعيد الشكيلية، مديرة المخاطر والأزمات بوزارة التراث والسياحة.

وأرض عُمان أرض تنبت العزة، أرض الكرامة والنخوة، معدن الرجال، جبالهم الشم الحراسُ كأنها آباء الهول (مفردها أبو الهول، وهي كلمة ممنوعة من الحركة لا تظهر عليها العوامل الأربعة) على رأي الرباني (مؤلِّف في النحو)، جبالها مصدر إلهام المناقب المحمودة وأغوارها تثمر الخلال الحميدة. خُيِّلَ إليَّ أن مظاهر سطحها لوحةً يرسمها فنان، وأجواؤها مفعَمة بالروائح الزكية،. لو وصلت أنف من عَزَّ الشعرُ عليه لاَنْبَجَسَ منه فورا، والفكرة استقيتها من قصيدة ولد التلاميد التركزي الشنقيطي، مفخرة هذه البلاد وواسطة عقد علمائها، لمَّا ركب السفينة التي سافر بها إلى الغرب، حين قال رحمه الله:
مَنْ عَزَّهُ الشعرُ قولا حين يركبُهَا

تفجَّرَ الشعرُ فورًا منه وانْبَجَسَا

وعلى ذكر مناطق عُمان وسهولِها وجبالِها فمن الطريف التنبيه إلى قول بعضهم إن عُمان أول قطر في الوطن العربي تطلع عليها الشمس، وأن موريتانيا آخر قطر بالوطن العربي تغرب عنه، وقول بعضهم كذلك إنك لو طويت خريطة الوطن العربي فستقع عُمان على موريتانيا كما يقع الشاعر على الشاعر.

وقد استقر في ذهني أن مناطق سلطنة عمان، وقد جُلْتُ في مناكبها، موزعةٌ لمن أراد المدنية أو أراد نفورًا منها، وأنَا أستظهر ما درسناه بجامعة دمشق من أن عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه قال: إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان. وقرأت الخبر بعد ذلك في الأمم والملوك للطبري، في سياق اختطاط العرب للكوفة، وقد ساغ لي ذلك لما دعاني صاحبُ السمو والمهابة أسعد بن طارق، لموسم سِباق الإبل، وقد حياني أمامَ السفراء العرب بوسام لا أنساهُ؛ حيث قدمني أمام أعضاء السفارة الموريتانية، والسفراء المدعوين بأنني أفصح سفير عربي قابله… وهي شهادة ممن يملك؛ لأنَّ فقهَه باللغة العربية يعُزُّ سبره. وقد زارنا ممثِّلا لسلطنة عُمان في القمة العربية التي انعقدت بنواكشوط سنة 2016م، وقد أعجب بالإبل الموريتانية، وباصطفافها احتفاء بمقدمه، وبالمناسبة فحضورُه في القمة تكريم لنا، وكان سنام مطالبي حين سألوني عنها يتمثل في رفع التمثيل (قلت لهم ممثلكم في القمم الخليجية)، فكانوا عند وعدهم، والوفاء من شيمهم المعهودة…

نعْمَى العمانيين فاجئة (ونعمى الناس أقوال)، أذكر أنه قبل القمة بشهر رن هاتفي، وكان معي أحد الطلاب الموريتانيين، فخرجت من الصالون إلى باحة المنزل، فقال محدثي: أنا الدكتور محمد عوض الحسَّان من وزارة الخارجية، هو الآن سفير سلطنة عُمان بنيويورك، قال: عندي مهمة، فانتشيتُ فرحا، وهزني طربا، عُمانيٌّ من وزارة الخارجية يريد مهمة، هم على درجة لا تخطر ببالٍ من القناعة والعفاف، فقد ذهب بعض الشراح إلى أن فحوى الحديث “لو أن أهل عُمان أتيتَ ما سبوك ولا ضربوك”، فحواه العلم والعفاف والتثبت. وهم وراء ذلك أغنياء، ماذا تنتظر منِّي، عزيزي القارئ، أن أقولَ؟ هنا وردت على لساني وهو ذرب -ساعتها- كلُّ العبارات التي تفيد الاستعداد لإنجاز المهمة، قال لي: سلطنة عُمان ستساهم بإرسال سيارات من طراز مرسيديس 650 مصفحة هدية لكم، ولكن على شرط أن تبقى الهدية سرًّا… شرحت له الصعوبة التي تكتنف بقاء الأمر سرًّا (فليسعد النطق)، وقد أرسلوها بواسطة DHL، ومعها مهندسون، وحين لاحظوا خللا بأحد المحركات استجلبوه من الخارج وبقوا بنواكشوط حتى أصلحوا الخلل، وهم من مهندسي المرآب السلطانيِّ بمسقط.

الدكتور محمد عوض الحسان هذا عربي أصيل، من صلالة، يحب موريتانيا وأهلها حبا لم أشاهده عند أحدٍ. حدثني أنه هو وحرمه كانا في الشانزيليزيه بباريس واختلفا في جنسية فتاة كانت تمر بجانبهما، قالت هي: إنها من صلالة، وقال هو: إنها من موريتانيا. وذهبا إليها واستأذناها في السؤال، فقالت: إنها موريتانية، واقترحت عليها حرمُه أن تذهب معها إلى صَلالة بعُمان فوافقت، فوجدت نساء صلالة يلبسن (النيلة – التاج- الرعيدة- النسور…)، وتحلق حولها نساء صلالة، وكان التشاكل والتماثل بينها وبين العمانيات (أهلَ صلالة) حديثهن طيلة العطلة. والعلاقة بين الأسرتين ما زالت قائمة، وقد اختبرني في ولايتها، بل وفي مدينتها، ولم أخيِّبْ له الظن، وقد حزم أمتعته ليزورنا في موريتانيا، وقد أخبرت أخانا وصديقنا المشترك، صاحب المعالي، فخرَ الدبلوماسية الموريتانية الوزير إسماعيل ولد الشيخ أحمد بذلك وأخذنا العدة لما هنالك، ولكن الجائحة منعته، وما زال عند وعده.

قلت: إنها ثلاث سنوات، ولكنها من قصرها ثلاث ليال، وحين استدعاني صاحب المعالي والمهابة السيد يوسف بن علوي (انظر الصورة) وأنا مسافر من غدي، قلت له انطباعي في جمل أوليت عناية خاصة لحَبْكِهَا، والأصل أن السفراء (عيون) لأنفسهم وأوطانهم على بلدان الاعتماد.

قلت له: خلال مقامي لم تر عينايَ منظرا يؤذيها، لم تر أعقابَ سجائر، أو علبة كولا فارغة، أو منديلا مرميا على الرصيف (عيناي كانتا في روض من الحسن ترتع)، لم أرَ عُمانيا يدخن، ولم أسمع زمُّورًا، العُمانيون دُعاة سلم، لا ينحازون إلا للحق، لذلك وساطتهم مقبولة، العُمانيون لا ينصرون عربيا على عربي، لذلك كلمتهم مسموعة عند الجميع، ووساطتهم كذلك مقبولة، لذلك لديهم (مِفَكُّ) للأسْرِ، شاهدت غداةَ قدومي كيف فكُّوا أسر فتاة فرنسية من خاطفيها في اليمن، وكيف نزلت تتبختر في كامل زينتها، في مطار مسقط، وتتابع مثل هذا المشهد طيلة مقامي…

قلت لمعالي الوزير: إنني من أهل النظر في التاريخ (مهنتي في الأصل التي أعيش منها) ولكنني هاوٍ للشعر وللآداب العربية، وقد قرأت عندكم كل أغراضه وقد برعتم فيها، برعتم في المدح وفي الرثاء وفي النسيب، في شعر المقاومة والحماسة، إلا أن الذمَّ، لم أقف على بيت منه، الذم عندكم من “محارم اللسان”، فأعجب بالفكرة واسترسل مؤكدا ذلك بأسلوب شيق أخاذ، وهنا ضحك ضحكة عميقة، وقد لاحظها المصور فاغتنمها، لفرط طابع الجد عنده، إذ الوقار عنده هو الغالب، في تلك اللحظات زاحم شوقي المتنبي في ذهني عندما قال في هذا البيت:
قد يهونُ العمر إلا ساعةً

وتهونُ الأرضُ إلا موضعَا

الأستاذ الدكتور: إزيد بيه ولد محمد محمود
جامعة نواكشوط العصرية

كرو بتاريخ 8 يوليو 2021

شاهد أيضاً

المصطفى محمد الأمين ديده/محطات مشرقة من حياة الوالد المصلح والمربي الأديب المرحوم الأستاذ إسلم محمد الهادي 

في ذكرى رحيله……محطات مشرقة من حياة الوالد المصلح والمربي الأديب: المرحوم الأستاذ إسلم محمد الهادي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *