علماء في السطور: داني دهره، وشاطبي عصره: محمد محمود القاسم (بقلم الشيخ الدكتور لمات القاسم)

 

بقلم الدكتور: لامات القاسم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الله، وعلى آله الأخيار، وصحبه الأبرار.

وبعد فهذه شذرات من حياة والدي وشيخي محمد محمود بن القاسم، دونت منها ما علق بالذهن، وحضر بالبال، من غير تحضير، ودون تنظيم أو تحرير، عسى أن أوفق لذلك في قابل الأيام إن كان في العمر بقية، أو يقوم به بعض تلامذة الشيخ أو أبنائه، وهم أحق بذلك وأهله، فمنهم الفقهاء، ومنهم الكتاب، ومنهم الشعراء…

وسأذكر في ذه الشذرات نسب الشيخ ونشأته، وطلبه للعلم ورحلته فيه، وما عرفت من شيوخه، ومحضرته وتدريسه وإفتاءه، وجوانب من عبادته وزهده، ولن أدون إلا ما تواتر عنه أو ما اشتهر به وعرف، فأقول مستعينا بالله متوكلا عليه، مفوضا أمري إليه.

اسمه ونسبه

محمد محمود بن القاسم بن محمد الأمين بن القاسم بن سيد المختار بن محمد بن الطالب المبارك البومالكي القلاوي، وأمه فاطم بنت محمود بن سيد البومالكية.

مولده ونشأته

ولد في العقد الثالث من القرن الماضي بلعصابه ضواحي مدينة كيفة، حيث ربوع آل أبي مالك العامرة وقتها بتلاوة القرآن والوقوف عند أحكامه، في محيط محافظ يستهلك الثقافة الإسلامية.

طلبه للعلم ورحلته فيه

درس محمد محمود في محيطه الخاص على والده القاسم “اباه”، وعلى ابن عمه الشيخ محمد بن محمد الهادي الذي ذاع صيته وانتشر ذكره.

ثم انتقل إلى الدائرة القريبة من محيطه الخاص فدرس على الشيخ محمد المصطفى بن سيد يحي والشيخ السالك بن آبه المسوميان، ورحل في الطلب إلى منطقة “أفله” فقرأ على الشيخ المصطفى بن أيده البوصادي صاحب شرح “المحتوى الجامع” الذي يعتبر أجمع شروحه وأوفاها، وقد سكن الشيخ محمد المصطفى بعد ذلك المدينة المنورة، فكانت لمحمد محمود معه مراسلات وكتابات، وقفت على بعضها في مكتبته.

عرف المرحوم “طالبن” بإتقان القرآن وعلومه، فكان داني دهره، وشاطبي عصره، قدمه شيوخه، وأسندوا إليه تدريس أجاويد الطلبة، فكان الشيخ محمد المصطفى بن سيد يحي يحيل إليه المتميزين من الطلبة والمهيئين لنيل السند؛ لمعرفته بالقرآن، وتمكنه من علومه من رسم وضبط وتجويد..

وحدثني العلامة محمد الأمين بن الحسن أنه كان شيخه يصحح عليه في مرحلة “السلك” “إشكر اعليه”

ويقول الشريف الزاهد العلامة القاضي سيدي بن سيد أحمد باب صاحب المؤلفات النافعة: إنه لا يعلم في عصره أحدا أعلم بالقرآن وعلومه من الشيخ محمد محمود بن القاسم.

كان – رحمه الله- عالما بالفقه، عارفا بالمسائل، يستشيره قضاة عصره في الأحكام والنوازل، وينهون إليه المتخاصمين للصلح بينهم، وبعضهم اختاره مزكي السر يزكي الشهود ويجرحهم…

محضرته وتدريسه

سكن الشيخ محمد محمود بن القاسم رحمه الله مدينة كيفة مبكرا، فاتخذ محلا لتدريس العلوم الشرعية، وأخذ عنه كثير ممن هم الآن أئمة وشيوخ محاضر، وقد نفع الله بعلمه ومنحه القبول، يقول الشيخ العربي بن بكالي – وكان يدرس عليه مختصر الشيخ خليل- : إن الشيخ محمد محمود بن القاسم ليس أعلمَ أهل عصره ولكنّ ورعه جعل علمه منتفعا به أكثر من غيره، وكنتُ درست عليه بعض المتون وأشهد أن ما أقرأني أثبت في نفسي وأحضر في ذهني مما أقرأني غيره، ولا أنسى نحيبه وشدة تأثره وهو يدرسني الجنائز من المختصر سيما قف “وندب تحسين ظنه بالله تعالى وتقبيله عند إحداده على أيمن…”

وكان – رحمه الله – مأوى للمستفتين يفدون إليه للسؤال عن نوازلهم والاستفسار عن الأحكام التي تتعلق بهم.

ومحظرته بمنطقة “السيف”عامرة بطلاب العلم، وقبلة للوافدين من كل صوب وحدب، من داخل المدينة وخارجها، وكان بها أجانب كثر ، يتولى القيام على شؤونهم، ويتكفل بأحوالهم – رغم قلة ذات اليد- يأكل معهم، ويجلس بينهم، لا يرضى أن يكون له ما يميزه عنهم من طعام أو شراب.

وقد تخرج منها ناس كثير، منهم شيوخ محاضر، ومنهم أئمة، ومنهم دعاة، داخل البلد وخارجه، وقد أجاز خلقا كثيرا، وليست إجازته سهلة فلا تُمنح إلا لمن أتقن القرآن، وتبحر في علومه.

حدثني تلميذه الإمام محمد محمود بن إسحاق أنه أمسك بيده يوما، وذهب به إلى مجموعة من إخوتنا “لحراطين” وقال ائتوني في المحضرة أدرّسكم، لا أريد جزاء ولا شكورا، وقال:”خايفين لا يكبظ بيدين يوم القيامة”، تأثّما من حديث:(والله ليُعلّمن قوم من جيرانهم ويُفقهونهم ويَعظونهم ويأمرونهم وينهونهم وليَتعلمنّ قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة)، ثم جاء أبناء تلك البيوتات ودرسوا في المحضرة.

له تقييدات وأنظام في علوم القرآن، وقد نسخ كتبا كثيرة بيده، جلُّها في علوم القرآن كالبحر والمتشابه والمفيد وكشف الغطاء وعجالة المجود وتآليف في الردف… كما نسخ “مغني قراء المختصر” وقفّف على كثير من فوائده، فلا تكاد تخلو صفحة من صفحاته من تقفيف.

عبادته وزهده

كان – رحمه الله – زاهدا ورعا تقيا نقيا، لا يذكر أحدا بسوء، مشتغلا بربه، لا تراه في اجتماعات، ولا تجده في ندوات، مقبلا على تعليم الناس وتوجيههم، وإذا ارتفع النهار ذهب إلى السوق لشراء مؤونة العيال والطلبة، يصحب معه بعضهم يحفظ ويستظهر، وإذا دخل السوق أقبل إليه الناس ما بين مستفت وطالب دعاء صالح، وإذا كلّ من المشي ركب عربة توصله إلى بيته.

ولمّا فتحت المعاهد الجهوية في الداخل وكان من بينها معهد كيفة “معهد أبو بكر بن عامر” حرص الوزير إذ ذاك الفتى الهمام يحي بن سيد المصطف على أن يكون الشيخ محمد محمود بن القاسم من أساتذته؛ لما تواتر لديه من علمه وورعه، فرفض الشيخ قائلا: إنه لا يدرس إلا في محضرته بالطريقة التي يعرف، فألح عليه الوزير ولم يزده ذلك إلا إباء، في الوقت الذي يتنافس المتنافسون على تلك المعاهد، ويرغبون في التدريس بها، ويستخدمون العلاقات، ويحركون الوساطات.

كان كثير العبادة إذا دنا الوقت هيأ وضوءه وشاص فاه بالسواك، وجلس مستقبل القبلة يذكر الله تعالى، ثم يشرع في النوافل الراتبة وغيرها، وكانت صلاته تنبئك عن عظيم حضوره، وشدة خشوعه، لا سيما لدى تكبيرة للإحرام وكانك ترى أمامك مقولة الشيخ محمد مولود اليعقوبي في تعريف الخشوع متجسدة:

والخوفُ باستشعارك الوقوفا @ بين يدي خالقك الرؤوفا@

به ابن رشد الخشوعَ عرفا…

وإن رأيته زمن الشتاء رأيت من آثار الوضوء عجبا عجابا.

كان رحمه الله صوّام الهواجر، قوَّام الدواجي، كثير التلاوة لكتاب الله تعالى حتى صار ذلك سجيته، أذكر أنه مرض مرضا غيب عقله، فكان يتلو القرآن، وإذا وصل محل سجدة أومأ للسجود، فكنا نستدل على غيبوبة عقله بتلاوته وعدم كلامه معنا.

كان كثير الصدقة والإنفاق ينفق مما ملكت يده ولو يسيرا، لا يكاد يزوره أحد إلا وقال هذه لفلان، وته لفلانة، وذاك لأهل فلان، يتعهد الضعفة والمساكين يواسيهم بما لديه، يتعهد الجار ويحسن إليهم، يحب الخير للناس ولا يسيء الظن بأحد.

وبالجملة فقد كان الشيخ محمد محمود بن القاسم بشوش الوجه، باسم الثغر، كريم النفس، سخي اليد، عفّ اللسان، صفي القلب، حسن السيرة، نقي السريرة، زاهدا في االدنيا، مقبلا على الآخرة:

وعما تبقى من حميد خصاله @ أرى الصمت أولى بي منَ ان أتكلما..

توفي رحمه الله ليلة الخميس سابع عشر اغسطس 2023 ، وأثنى عليه كل من عرفه أو سمع عنه، ورثاه بعض طلبته بمراثي لا تحضرني الآن، وكثير منها نشر على مواقع التواصل الاجتماعي.

 

 

شاهد أيضاً

تعيين وال جديد لولاية لعصابة

عين مجلس الوزراء المنعقد اليوم أحمدو ولد اخطيره واليا لولاية لعصابة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *