تماضر اليامي
كنت قد ذكرت في المقال السابق ملخص نظرية العالم الفرنسي غوستوف لوبون (1841-1931) بما يخص روح الجماعات وسيكولوجية الجماهير والتي شبه فيها تأثير الجماعة على الفرد فيهم بتأثير المنوم على من ينومه مغناطيسيا، بل خلص إلى أن سحر الجماعة أشد وأقوى، وكيف أن عدوى السلوك ينتشر في الجماعة بسهولة وسرعة انتشار النار في الهشيم، وكما أن الصواب في الأحوال العادية هو القاعدة السائدة والطبيعية قد يغدو الخطأ بفعل الجماعة وتأثيرها هو القاعدة السائدة والطبيعية!
ولتطبيق نظرية لوبون على الواقع ضربت مثلا بسلوكيات الأفراد المنتمين لجماعة خلال رحلة جوية داخلية بمراحلها وكيف أن تلك السلوكيات رغم خطأها بدت هي القاعدة السائدة والطبيعية للجماعة بأفرادها. وجاء تغير سلوك أولئك الأفراد سرعان ما خرجوا من محيط جماعتهم «Their comfort zone» إلى محيط لا ينتمون إليه ولا يتعرف على سلوكياتهم ولا يجد تبريرا لها. فما أن يضطر أحدهم لأن يستخدم رحلة جوية لشركة خطوط «غير محلية» حتى تتلاشى جميع تلك السلوكيات -الخاطئة فرديا لكن المقبولة جماعيا والمهملة قانونيا- أو معظمها على أقل تقدير، وفي مشهد غريب ينتظم غير المنتظمين ويتقيد من هم في العادة وبين الجماعة مخالفون، فقط ليثبتوا أنهم كأفراد قادرون على أن يكونوا أفضل مما هم عليه بين الجماعة، وأنهم بعيدا عن تأثير الجماعة واحتوائها لهم وتعزيز السلوك الخاطئ بإنزال الصبغة السائدة عليه يصبحون أفرادا متحضرين قادرين على تحمل مسؤولية أفعالهم، وذلك ما يفسر نظرية لوبون التي عزا فيها هبوط بعض المجتمعات درجات على سلم الحضارة لحقيقة تكوينها الجماعي، بينما ترتفع مجتمعات أخرى درجات على نفس السلم لطبيعة تكوينها الفردي، حيث يكون القانون هو سيد الموقف وليس روح الجماعة.
بوضع نظريات العلوم الاجتماعية ومنها النظريات أعلاه في الصورة في خلال تحليلنا لظاهرة تخلف مجتمعنا عن المجتمعات المتقدمة سلوكيا وحضاريا نجد أن العائق الأساسي والحقيقي لتقدمنا ومحاذاة الحضارات الرائدة ليس «ثقافة المجتمع»، كما يدعي المتخاذلون والمتكاسلون ممن يزيح هذا المصطلح عن كاهلهم عناء اتخاذ قرارات إصلاحية جريئة ووضع خطة لتغيير تلك الثقافة والمضي في تحقيقها وصولا إلى ما وصلت إليه دول العالم الأول.
ذلك أن ثقافة المجتمع ليست حقيقة علمية ثابتة غير متزعزعة وغير قابلة للتغيير، ولن تتغير ثقافة أي مجتمع وحدها في غياب خطة وقوانين وتنفيذ ومتابعة -إلا للأسوأ- وللمزيد من الفوضى والبدائية والقبلية.
ولنسأل أنفسنا كيف كانت ثقافة مجتمع «رعاة البقر» الأمريكية أو ثقافة مجتمع «الكنيسة» الأوروبية، والأقربون أولى بضرب المثل مجتمع «رعاة الإبل» الإماراتي قبل أن يحمل شعلة التغيير أفراد مسؤولون آمنوا بقدرتهم على تغيير ثقافة المجتمع الرجعية إلى ثقافة أمر القانون، فوضعوا القوانين الصارمة لتردع التجاوزات وأصلحوا التعليم ليهذب النفوس.
لعلكم استشعرتم مدى استفزاز عبارات هلامية تردد على أسماعنا مع كل مطلب بالتطوير والتحضر والتغيير مثل «ثقافة مجتمع» أو «المجتمع غير جاهز» أو «المجتمع لا يقبل»! ثقافة المجتمع بيد المسؤول.