في وقت تصارع فيه أغنى دول العالم من أجل ألا تغوص مؤشراتها الإقتصادية والاجتماعية تحت الصفر، وفي وقت تبذل فيه هذه الدول -وغيرها- جهودا حثيثة لضبط نفقاتها العمومية وتوجيهها بشكل يعظم فرص الانتعاش الإقتصادي والنمو المستدام (الحل الجدي الوحيد للقضاء على مظاهر البؤس داخل مجتمعنا)، وفي وقت تشن فيه السلطات العمومية الموريتانية هجمة متعددة الأبعاد ضد رئيس سابق خدم البلاد والعباد بإخلاص ونجاح منقطعي النظيرين خلال عقد من الزمن، بغية منعه من ممارسة حقوقه السياسية المحصنة دستوريا و ديمقراطيا، تحت يافطة “محاربة الفساد”، وفي وقت تتسابق فيه أوساط الفساد الفعلي جميعها تشجيعا ودعما لمعاقبة من وقف يوما مشهودا في وجهها وقلم أظافرها تفتيشا ومحاكمة واسترجاعا للأموال المنهوبة، تطالعنا المعطيات التالية:
١- ارتفع رصيد حساب الخزينة العمومية بنسبة (غير نمطية) 1136,36%، مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية، بينما لم يسجل -حسب المصادر الرسمية- رصيد البلاد من العملة الصعبة لدى البنك المركزي سوى 33,58% خلال نفس الفترة، فقد ارتفع من 1048000258 دولارا أمريكيا نهاية أغسطس 2019، إلى 1400000000 دولارا أمريكيا بداية الأسبوع الجاري، مما يثير تساؤلات خبراء المجال، خاصة أن الموارد الذاتية (مداخيل الضرائب) مثلت- حسب نفس المصادر- 80 مليارا فقط من أصل 272،
٢- حسب مصادر صحفية موثوقة، فقد سجلت البلاد 113 صفقة عمومية بالتراضي خلال أربعة أشهر فقط، مما كلف الدولة 20 مليار أوقية،
٣- ارتفعت الميزانية العامة للدولة بنسبة 11,5% مقارنة بميزانية السنة الماضية،
٤- ارتفعت هذه السنة ميزانيات الرئاسة ب 88% والبرلمان ب 30% ووزارة العدل ب 17,5%، مقارنة بميزانيات السنة الماضية،
٥- تم اكتتاب 60 محاميا من خلال صفقة عمومية وصفها بعض زملائهم بأنها غير قانونية (بالتراضي)، كما يتم الترتيب حاليا “لدمج” 14 منظمة غير حكومية وعددا غير محدد من المؤسسات الصحفية والمدونين، في إطار حملة التشهير والاستهداف ضد رئيس البلاد السابق، مما سيكلف خزينة الدولة أموالا طائلة، في وقت كانت موارد النيابة العامة (البشرية والمادية) وصلاحياتها القانونية كفيلة بتجنيب دافع الضرائب الموريتاني تكاليف غير مبررة في فترة ضيق اقتصادي خانق،
٦- تضارب المعلومات الرسمية حول دمج البرامج التنموية التي يتم تنفيذها حاليا في “خطة الإقلاع” وحول دور القطاع الخاص في هذه الخطة التي يتوقع أن تكلف 240 مليار أوقية وتستغرق سنتين ونصف السنة،
٧- تتحدث بعض الأنباء عن حصول جهات سياسية -من بينها شخصيات معارضة وازنة-على امتيازات مادية وتوظيفية هامة، جودا من الدولة.
ولا غرابة في أن تؤثر سياسات كهذه على قدرة الدولة حاليا على الاضطلاع بمسؤولياته في مجال توفير الخدمات الأساسية للمواطنين من ماء وكهرباء وغيرها والاستجابة السريعة والفعالة لنداءات استغاثتهم إثر الكوارث الطبيعية كالفيضانات.
وأود في نهاية هذه “التدوينة”، أن أقترح على المهتمين بالشأن العام الوطني (“من لم يهتم بأمر المسلمين…”)، أن يتم دمج “البعد الكمي” (الأرقام) في نقاشاتنا وحواراتنا حول أفضل السبل لخدمة مصالح الشعب الموريتاني بشفافية وفعالية واستدامة. فمن شأن هذا التوجه أن يزيد الخطاب العمومي وضوحا ودقة وأن يكبح جماح الاسترسال الوصفي الفضفاض والمتناقض أحيانا…