اللا معنى…
تلاحقت الأحداث خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية بشكل حال -مع الأسف- دون أن أطلع متابعي هذا الجدار على حيثيات استدعائي من طرف الشرطة السياسية للنظام. لذا “وجب قضاء فائتة…”
حوالي الثانية بعد زوال يوم أمس، أخبرني أحد الأطفال أن ضابط شرطة يطلبني عند الباب، وعندما فتحت عنه، قال لي -شفهيا- إن “شرطة الجرائم الإقتصادية” تود الاستماع إلي، فسألته متى؟ وأين؟ فقال لي “الآن” وفي بناية ” على طريق المقاومة”…
توجهت مباشرة إلى البناية المذكورة رفقة أخي الأصغر، وعلى مستوى المنعطف اتجاه البناية، استوقفتنا دورية أمنية دقائق قليلة قبل أن تطلب منا التوجه إلى البوابة الرئيسية للبناية، وما إن تجاوزنا البوابة المذكورة حتى أمرنا الأمن بركن السيارة، وقام بتفتيشها، ثم طلب مني النزول منها وإعطاءه بطاقة تعريفي التي أعاد إلي بعد تدوين معلومات في سجل كبير جدا، ثم خيرنا بين ركن السيارة داخل المركب أو السماح لها بالمغادرة، فاخترت الحل الأخير. بالنسبة لهاتفي الجوال، خيروني بين تركه معهم أو مع أخي، ففضلت الحل الثاني…
طلب مني ضابط مرافقته داخل المركب، لندخل معا إحدى الفلاهات حيث كان يتواجد فيها عدد من ضباط الشرطة وبعض الأشخاص من ضمنهم ثلاثة أعرفهم. طلب مني أحد أفراد الشرطة الجلوس على كرسي في المدخل. لم يمض وقت طويل (.٢ دقيقة تقريبا) قبل أن يطلب مني ضابط شرطة مرافقته داخل مكتب وجدت بداخله ضابطان آخران. كان أحدهم يكتب بقلم والآخر يطبع على جهاز حاسوب.
تعلق السؤال الأول بالتعريف، فقدمت نفسي بسرعة. أما السؤال الثاني فتعلق بمهنتي: “أستاذ جامعي”.
قال أحدهم إنه تم استدعائي لأنني شغلت منصب “وزير العمران”، فقلت بأنني لم أشغل قط هذا المنصب، فصحح آخر: “وزير التجهيز”، فقلت :”نعم، لفترة سنة بالضبط أي من (…)”.
كان السؤال الموالي يتعلق ب-“خيرية اسنيم”، فأجبت أنه لم يحصل أي اتصال مباشر أو غير مباشر بيني وأي ممثل لهذه الهيئة خلال السنة التي شغلت فيها منصب “وزير التجهيز والنقل” ولا قبل ذلك ولا بعده…
أثاروا “آ تي تي أم”، فأجبت أنها لم تكن تحت وصاية “وزارة التجهيز”، إلا أنها كانت تنجز بعض مقاطع الطرق الكثيرة حينها، والتقيت بعض ممثليها خلال زيارات التفقد التي كنت أقوم بها من وقت لآخر لهذه المقاطع.
وعن دمج “آ تي تي أم” و”أنير”، رددت أن العملية حصلت بعد أن غادرت وزارة “التجهيز”؛ فسألني أحدهم عن رأيي حول العملية المذكورة، أجبت أنه من الصعب إبداء رأي موضوعي دون ملفات ومعلومات، إلا أنه إذا كان الهدف هو خلق شركة أشغال عامة وطنية بقدرات كافية لإنجاز منشآت تنموية في ظروف أقل تكلفة وبجودة كافية، فالأمر مبرر، أما إذا كان الهدف هو خلق احتكار ضار بمبدأ المنافسة فالأمر عكس ذلك، وأن هذا النوع من القرارات يعتمد في اتخاذه على مقابلة الإيجابيات بالسلبيات من منظور المصلحة العامة، وأن المعطيات الظرفية لها أهميتها.
سألني أحدهم: “هل تذكر صعوبات خاصة واجهتك خلال مزاولتك لمهامك كوزير للتجهيز والنقل”؟ فأجبته طبعا، فالتسيير برمته يتعلق بتحاوز التناقضات وإيجاد التوازنات و الاجتهاد في أمور معقدة في الغالب.
بدأت عن الحديث عن “ملحق” شركة “أجيس” التي كانت تراقب إنجاز أشغال ” مطار أم التونسي”، والتي قررت الانسحاب إثر تأخر الأشغال وانتهاء مدة تعاقدها الأصلي، وبُرج المراقبة لما يركب وأجهزة الملاحة لما تصل نواكشوط و المدارج لما “تعتمد”… وكانت الخيارات كلها صعبة:
-ترك المنشأة تنجز بلا رقابة ودون أي ضمان للجودة، الشيء الذي قد يحول دون “تبنيها” من طرف “منظمة الطيران الدولي”…
– اكتتاب مكتب جديد، إلا أن الآجال والتكاليف كانت تمنع ذلك منعا
– محاولة الرقابة من طرف فريق من الوزارة، إلا أن الأمر يتعلق بتجهيزات ومختبرات ومتخصصين لم نكن نتوفر عليها
– الرضوخ للشروط المجحفة التي قدم المتعاقد الموجود على الأرض والذي تم اختياره أصلا بطريقة تنافسية ولم نكن قد سجلنا ضده خروقات تذكر.
شرحت للشرطة أنني أنا المسؤول عن تبني الخيار الأخير، وأن الرئيس السابق لم يتقبله في البداية بسبب تكاليفه، إلا أنني ألححت حتى تمت برمجة المقترح في مجلس الوزراء ودافعت عنه بصعوبة، إلا أنه تم اعتماده في النهاية، وأنا المسؤول الأول عنه لأنني كنت أعتبره “أخف الأضرار” وقتها.
تحدثت بعد ذلك عن مشروع آخر، قلت إنني لا أذكره بالضبط ( ولعله طريق “كيفه-بومديد”)، فما أذكره هي صعوبات شرحتها سابقا في نص بالفرنسية(على هذا الجدار) وفصلتها للشرطة.
جاء فصل جديد من الأسئلة يتعلق بثروتي الشخصية وحساباتي، فأجبت أنني أملك حسابا واحدا وقديما جدا في إحدى البنوك الموريتانية فسألوني عن رصيده فقدرته، حسب ما تذكرت.
قلت للشرطة إنني اشتغلت كمدرس للرياضيات في جامعة “أورليانه” الفرنسية من ١٩٨٨ إلى ١٩٩٣، وخلال السنتين الأخيرتين كنت أتقاضى حوالي ٩٤٠٠ افرنك فرنسي -وهو راتب كبير بالنسبة لبلادنا وقتها- ولدي الوثائق على ذلك، ومن هذا العمل شيدت منزلا (١٢x١٥) في “الكصر”، سنة ١٩٩٥، كنت أسكنه.
ومن ٣..٢ إلى ٦..٢، تم اكتتابي كأستاذ في “جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا” حيث شغلت منصب “وكيل لشؤون الطلبة”، وكنت أتقاضى راتبا في حدود مليون وثلاثة مئة أوقية، وهو مبلغ كبير جدا مقارنة بمعدل الأجور في بلادنا (أكثر من راتب وزير)، اشتريت منه ثلاثة قطع، إثنتان في ” ملح” وواحدة “انتزعها” مني “الملح” في “الزعتر”…
أما ما جنيت من وظائفي السامية التي بدأت قبل “العشرية”، كرئيس “لجامعة نواكشوط” والتي شملت مدير ديوان الرئيس ووزير التعليم العالي و وزير التجهيز ورئيس سلطة التنظيم ورئيس الحزب الحاكم ووزير الخارجية وسفير في لندن، ما جنيت من هذا كله إذا هو المنزل الذي أقطن فيه حاليا في “صكوك”. وأني لم أحصل أنا أو أي مقرب مني -وأنا في هذه الوظائف- على أية قطعة أرضية أو سيارة “مصلحة” أو أي امتياز آخر وأنني لم أملك قط سيارة “فارهة” لأنني وبكل بساطة أجدها “متبجويه”، كما نقول نحن أهل البادية، خاصة في بلد محدود الموارد مثل بلادنا، وذلك على الرغم من أنني كنت من يشرف -في بعض الأحيان- على تسليم هذه المزايا لأصحابها، كمدير للديوان مثلا.
وفي إطار “اخروجو اللي ما إصيبوا عنو اشوابين الگرايه”، تطرقت أمام الشرطة لمهزلة جزيلة “التيدره”…
بعد حوالي ثلاث ساعات، أخبروني أن “التحقيق” انتهى، إلا أن علي أن أجلس مجددا في المدخل ريثما يعرفوا هل “المدير بحاجة في”.
بقيت هناك حوالي ساعة إضافية، وكنت جالسا إلى جاب شرطي شاب، فسألته: “عن عمر هذا المركب الذي نحن فيه؟”، فأجاب: “إثنى عشر سنه…”، فقلت: “وكأنه أجد من ذاك…”، فقال: “صحيح، بني ٢.١٢…”، فقلت: “خلال “العشرية” إذا…”. فنظر في الاتجاه المعاكس ولم ينبس بكلمة بعدها ؛ ضحكت “داخليا”…
بإشارة سريعة وخفية، عرفني شرطي على “المدير” الذي كان يمر قربنا، فسلمت عليه وقلت له إن التحقيق انتهى وأن زملاءه قالوا لي بأن لا أغادر حتى أعرف هل هو “بحاجة في ” أم لا، فأجابني أنه سيعود إلي لأنه في لقاء مع “المدير المساعد”. وما هي إلا دقائق حتى عاد إلي ليخبرني بأن بوسعي الانصراف وأن لديهم رقم هاتفي إذا “احتاجوا إلي مجددا…”.
خرجت من “الفلا” وأنا أجر قدمي جرا محاولا فهم تسلسل الأحداث التي جعلتني أهان بهذه الطريقة في آخر عمري، فلم أجد مبررا آخر سوى الظلم والتسلط وعجز الحرفية…
عدت إلى البيت في سيارة “تاكسي” متهالكة، لأنني لم يكن لدي هاتف، فوجدت المشهد مزريا…
كتبه(بسرعة)
د. إسلك أحمد إزيد بيه